مستوى التزوير العالي، نسبة المشاركة الضئيلة وانقسام الأصوات على الأطراف السياسية، عوامل جعلت انتخابات 12 أيار تعتبر كارثية، فهذه الانتخابات وضعت الشرعية وسلطة الحكومة العراقية موضع تساؤل، من جهة، ومن الجهة الأخرى لم تترك خياراً غير أن تكون الحكومة القادمة، كسابقاتها على مدى 15 عاماً مضين، قائمة على أسس طائفية تجعل من الفساد آلية رئيسة للعمل الحكومي، ويرى خبير أمريكي بشؤون العراق أن “العراق مقبل على كارثة كبرى”.

انتخابات سيئة

زار الخبير في شؤون العراق من معهد (إنتربرايز) الأمريكي، كينيس بولاك، العراق في 18-23 حزيران من هذا العام وأعد تقريراً. التقى بولاك خلال زيارته تلك كبار المسؤولين الحاليين والسابقين في العراق، وبينما تشير البيانات الرسمية إلى نسبة مشاركة تجاوزت 44% في الانتخابات، يقول بولاك إن الكثيرين في العراق يجمعون على أن نسبة المشاركة الحقيقية إن لم تكن أقل من 20% فلا يمكن أن تتجاوزها.

ويحدد الخبير الأمريكي ثلاث خصائص للانتخابات العراقية تنذر بتدهور الأوضاع السياسية والإدارية في العراق، أولاها، نسبة المشاركة المتدنية التي “تعبر عن الفكرة الشائعة في العراق والقائلة بأنه ليس هناك زعيم سياسي يستطيع تلبية مطالب الشعب”.

والخصيصة الثانية هي نسبة التزوير العالية من قبل أحزاب سياسية، ويشير التقرير في هذا المجال إلى كل من الاتحاد الوطني الكوردستاني وعصائب أهل الحق. في حين يربط القسم الأكبر من التزوير بفساد وارتشاء أعضاء المفوضية العليا للانتخابات العراقية، الذين ساهموا في فوز مرشحين معيني لقاء رشاوى تلقوها منهم.

الخصيصة الثالثة، والتي يصفها بولاك بـ”اللعنة”، هي أن “انتخابات 2018 شكلت برلماناً مفككاً من المحال أن يتوقع منه تشكيل حكم جيد”، لأن نتائجها ستضطر العراقيين للقبول بحكومة وحدة وطنية “يكون لكل حزب رئيس فيها عدد من الوزراء، يتولون استنزاف وسحب أموال الحكومة لصالح الأطراف التي ينتمون إليها”.

غضب الشارع

لم ينتظر البغداديون ولا أبناء مدن الجنوب ظهور نتائج العد اليدوي، وخرجوا إلى الشوارع محتجين على شحة المياه والكهرباء وعلى انتشار البطالة، لأن العراقيين مقتنعون بأن “إعادة عد وفرز الأصوات لن تغير شيئاً، ولن تكون لدى الحكومة الجديدة القدرة ولا الإرادة لإحداث أي تغيير”.

يؤكد بولاك في تقريره على أن أهمية المظاهرات الاحتجاجية العراقية الأخيرة تكمن في “أن المتظاهرين ليسوا من العرب السنة الغاضبين نتيجة سياسة الإهمال والتهميش، ولا هم من الكورد الذين يحلمون بالاستقلال، بل من الشيعة الذين تتكون منهم الأحزاب السياسية التي تدير دفة السلطة”.

عند الحديث عن مشاكل الماء والكهرباء، تمد الحكومة العراقية أصابع الاتهام إلى إيران وتركيا، لكن بولاك ينسب أصولها إلى “غياب الأهلية، الشلل والفساد” في حكومة بغداد، حيث “تجري المصادقة على القوانين دون أن تطبق، ويعلن عن المشاريع التي لا تنفذ إلا إن كان المقاول المنفذ أجنبياً”.

لا أمل في حل من الداخل

يرى تقرير الخبير الأمريكي أنه ليس هناك سبب يدعو إلى الأمل في تمكن الحكومة العراقية القادمة من حل معاناة الشعب، وأحد أسباب ذلك هو النظام السياسي والإداري العراقي الذي يقيّد الحكومة ويعيق قيامها بعملها، وهذا النظام نفسه الذي جعل المالكي، ذي الـ89 مقعداً برلمانياً “يدير دفة البيروقراطية العراقية بشق الأنفس”، وفي ظل ظروف كهذه ليس معلوماً ما الذي يمكن أن ينجزه مقتدى الصدر بـ54 مقعداً أو حيدر العبادي بـ42 مقعداً برلمانياً.
استثمرت الولايات المتحدة الكثير في إنجاح العبادي في انتخابات 12 أيار 2018، لكنها رغم ذلك فشلت.يقول بولاك إن العبادي “كان أكبر ضحايا التزوير في الانتخابات، فقد ذهبت نسبة كبيرة من أصواته إلى عصائب أهل الحق والمجاميع الصغيرة”.

هناك عدد كبير من الأسماء المطروحة لرئاسة الوزارة العراقية القادمة، ومن بينهم زعيم منظمة بدر وتحالف الفتح، هادي العامري، ومع ذلك يرى بولاك أن رئيس الوزراء العراقي الحالي لديه فرصة للفوز بالمنصب لولاية ثانية “لأنه ثاني أفضل الخيارات المتاحة لجميع الأطراف، ولا يمكن لهذه الأطراف أن تتفق على أول أفضل الخيارات”، ومع أن من المستحيل أن يتمكن العبادي في هذه الحالة من إحداث تغيير جوهري، لأن موقفه خلال السنوات الأربعة الأخيرة ضعيف في حزب الدعوة وبين شيعة العراق.

كما يشير بولاك إلى أن الكورد أيضاً يمرون بظروف عصيبة، لأن “الاتحاد الوطني الكوردستاني يعاني بشدة من التكتلات الداخلية، وكان قيامه بالتزوير واضحاً لدرجة أخجلت حتى الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الذي يعد شريكاً لهذا الحزب”.

وفي ظروف كهذه، فإن أفضل النتائج بالنسبة للكورد يتمثل في انقسام الشيعة على تحالفات متنافسة، لأن الكورد سيتمكنون حينها من “استخدام مقاعدهم، التي تتجاوز 40 مقعداً، للتوصل إلى اتفاقيات جديدة حول عائدات النفط، سوق النفط والحدود (مع الطرف العراقي)”، ويرى الباحث الأمريكي أن حكومة موحدة وطنية ستقطع الطريق على هذا، لأنه “في حال اتفق الشيعة على تشكيل حكومة، ينبغي على الكورد أن يتفاوضوا مع جبهة شيعية موحدة”، لكن ليس ثم مفاوض شيعي يستطيع منح الكثير للكورد “خوفاً من أن يتهم بالتنازل للكورد”.

كارثة مقبلة على العراق

يحذر التقرير من أن أغلب السينارهوات المتوقعة، من خلال الوضع الحالي للعراق، عبارة عن احتمالات سيئة وعدد كبير منها “سيء لدرجة كارثية”، بحيث يجب “الإقرار بأن العراق مستعد لثورة”، والسبب هو الفجوة الكبيرة بين الوضع المعاشي الذي يتوقعه الشعب والوضع الذي يعيشه الشعب فعلاً، وكان هذا في التجارب السابقة “تحذيراً أولياً يؤذن بالثورة، والاضطرابات التي تشهدها المناطق الشيعية في جنوب العراق إشارات أولية تدل على ما ينتظر العراق”.

خلال العقد ونصف العقد الأخير، تعهدت كافة الحكومات العراقية بالعمل على حل مشاكل ومعاناة الشعب، لكن كلما تشكلت حكومة عادت إلى ممارسة الفساد والتلكؤ، ولا يستبعد بولاك أن تعاني الحكومة العراقية المقبلة من نفس الداء “لأن حكومة الوحدة الوطنية ستعود مرة أخرى إلى تبني نظام حكم غير فعال ومشلول، وقد يؤدي ذلك إلى قلب الاستياء الشعبي إلى إصرار على تغيير الحكومة”.

يمكن لعملية تشكيل الحكومة الجديدة أن تمهد لانطلاق ثورة، وخاصة في حال إبعاد بعض القوى الرئيسة عن العملية، ويرى بولاك أنه “في حال إقصاء الفتح وسائرون عن الحكومة هذه المرة، فإنهما سيحظيان بمكانة تؤهلهما للادعاء بقيادة ثورة”.

التاريخ العراقي يحتوي أمثلة لأوضاع مشابهة للوضع الحالي، تحججت فيها شخصية سياسية أو عسكرية بحماية البلد وإنقاذ الشعب من المعاناة للمطالبة بالسلطة المطلقة، في سبيل إجراء إصلاحات جذرية في النظام، ولا يستبعد التقرير تكرار هذا السيناريو، كما حدث عندما انقلب عبدالكريم قاسم في العام 1958 على نظام الحكم واحتفظ لنفسه بسلطة مطلقة بحجة العمل على بناء عراق حديث، وبات هو دكتاتوراً.

ثم احتمال آخر، وهو أن تبلغ موجة الاستياء الذروة ويتصاعد عدم ثقة الشعب بالسلطة، وفي هذه الحال وكما يذكر التقرير “سيرحل كثيرون عن العراق، ولن يعود كثير آخرون مهتمين بما يجري في بغداد، وسيتصدون لجهود الحكومة الرامية لإدارة مناطقهم”.

ولا يستبعد كينيس بولاك أن يستمر هذا السيناريو لفترة طويلة، لأن “الجماعات والنخب المختلفة ستسعى للحصول على حصص أكبر من الثروة النفطية الهائلة لنفسها” ما سيعمق الصراعات والخلافات أكثر.

خلال السنوات الـ15 الأخيرة، مضى الوضع في العراق صوب الأسوأ بعد كل انتخابات، وهذا ما يجعل الباحث الأمريكي يعتقد بأن موجة الاستياء الشعبي الحالية ستمهد لولادة سيناريو آخر “سيكون فيه العراق أكثر انقساماً وسيتفكك عاجلاً أم آجلاً، ولن يعود العراق سوى اسم على الخريطة”، وفي هذا الصدد يشير إلى محاولات البصرة والموصل لإقامة أقاليم، ولا يستبعد أن تمهد الحكومة العراقية “غير المؤهلة والمشلولة” لكي يعيد الكورد المحاولة لنيل استقلالهم.

ويتوصل الباحث إلى أنه “في ظروف معقدة وفوضوية كهذه، سيمضي العراق بسهولة نحو فوضى سياسية شبيهة بتلك الصومالية، وستبدأ جولة أخرى من الحرب الأهلية داخل المجتمع العراقي، ويخبرنا التاريخ بأن هذا نموذج شائع وقد يكون منعه صعباً للغاية عند نقطة معينة”.

ما الذي يجري؟

يكتب بولاك منذ حوالى عقدين عن الوضع الأمني في الشرق الأوسط والعراق، فقد كان خلال الفترة 1988-1995 مستشاراً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، للشؤون العسكرية العراقية والإيرانية. كما كان أحد الخبراء المؤيدين لضرب العراق في العام 2003، لكنه الآن يعارض فكرة الثورة في العراق ويرى أن منع حدوثها لا يزال ممكناً.

يقول بولاك: “الثورات نادرة الحدوث عبر التاريخ، لأن الشعوب عموماً لا تتجه نحو الثورات، ولا تلجأ إلى العمل على إسقاط الأنظمة إلا إذا فقدت كل خيار آخر، وهكذا إذا حصل الشعب على باعث للأمل في إصلاح الوضع، يمكن الحصول منه على مزيد من الوقت”، ويمكن العمل خلال هذا الوقت المستحصل على خطط طويلة المدى.

عمت المظاهرات الساخطة بغداد وجنوب العراق منذ أكثر من شهر، وتركز عموماً على نقص الخدمات الرئيسة وغياب فرص العمل، ويؤكد الباحث الأمريكي على أن من أهم مظاهر الاستياء أنه “موجه إلى القيادة العراقية وليس إلى النظام السياسي، فالشعب مستاء من غياب القدرة والرغبة في الإصلاح الحكومي عند أي قيادي. لكنهم لم يطلبوا حتى الآن إنهاء الديمقراطية، كما أنهم لا يؤيدون الشخصيات المخادعة التي تحاول إسقاط النظام وتتعهد بالإصلاح”، كما أن المظاهرات لا تؤيد أي حزب سياسي بل ترفض كل النخب والمجاميع السياسية في البلد.

يشير بولاك إلى أن هذه مجموعة مميزات هامة، وإن كانت الحكومة العراقية حاذقة وحصلت على دعم الولايات المتحدة الأمريكية، فمن الممكن كبح جماح الاحتجاجات “وقلب الوضع”، ولتحقيق هذا “يمكن خلال سنة أو أقل البدء بمجموعة مشاريع فعلية منفصلة عن بعضها تحسن الحالة المعاشية لبعض العراقيين”، لكي تبيّن للشعب “أن الحكومة بدأت بحل تلك المشاكل وتثبت لشعبها أن لديها اإرادة والقدرة على زرع الأمل عند الشعب”.

By HAIDAR ALMOSAWY

كاتب صحفي عراقي، ومدقق معلومات