لؤي زهره

عادة ورثتها عن ابائي وهي انني اعتدتُ أن أركب سيارة ( الكوستر ) بدلا عن ( التكسي ) وهذه العادة اسبابها سياسية ، فالحروب الكثيرة التي طحنت بأقتصاد العراق هي التي جعلت موارد الخزينة تتجه صوب الآلة الحربية متناسيةً الرفاه المدني لشعب يطفو وطنه على بحر من النفط . 
بالأمس صعدتُ بالسيارة الكوستر وجلس الى جنبي رجل اربعيني يرتدي الكوفية والعقال العربي وبدون اي مقدمات قال : ” عمي كلشي بسبب التقشف ” فأبتسمت له وقلت ” خير حجي ؟ ” ، فأدار وجهه نحوي وقال لي بلهجة عراقية ” لا تغشم روحك ، وانت واضح انك مثقف حيث ترتدي ملابس ملونة ” استغربتُ من ردهِ واردت ان أسأله ما علاقة الالوان بالثقافة ؟! ، لكنه لم يترك لي المجال حيث استطرد قائلا ” انت لماذا تصعد الكوستر؟ اليس بسبب التقشف ؟ كان من المفترض ان تستقل سيارة اجرة توصلك اسرع ، لكن بسبب التقشف وتردي وضعك المالي حتم عليك ان تستقل هذه السيارة اللعينة التي عفى عليها الزمن . كنتُ افكر بكلام الرجل لكنه لم يترك لي المجال للتفكير فقد واصل حديثه ” وليس هذا فحسب فالذي يصعد التكسي ايضا بسبب التقشف فمن المفروض ان تكون له سيارة خاصة به توصله وعائلته الى حيث يريد ” 
انطلق سائق الكوستر بسرعة جنونية فقال : ” ها عمي هذا السايق يسوق برعونة وايضا بسبب التقشف لأنه يتسابق مع الزمن من اجل ان يلحق به ويدبر عيشتهُ ” . وبسبب سرعة السائق صرخت امراة من خلفنا : ” خاله على كيفك راح تدعمنه ” ، فقال لها الرجل الاربعيني : ” كله بسبب التقشف لأن المفروض أنتِ الان جالسة ملكة في بيتك وتتصلين عبر الهاتف فيوصلون طلباتك الى البيت لكن بسبب التقشف انت الان تضطرين ان تركبي الكوستر من اجل ان تتسوقي ” . 
ثم قال لي : ” عمي اني رجل بسيط اسكن في اطراف المدينة وعندي قطعة ارض هي كل ما سأخرج به من الدنيا ، وكل ما اتمناه ان يطيل الله في عمري حتى اكمل بناء البيت الذي طالما حلمتُ به ” لم يترك لي الرجل ان اطلق حسرة على العمر الذي ضاع هباءا منثورا في وطن اكلت منه الحروب كل شيء ، حيث قال : ” منذ سنتين وانا احاول ان اكمل بناء بيتي لكن بسبب التقشف توقفت عن البناء واليوم جئت الى المدينة بعد ان سمعتُ من بعض الخيِّريّن امثالك عن وجود محل لبيع الكاشي بسعر رخيص خمسة الاف دينار للمتر ، فتعاملت معه على اربعة الاف للمتر ووافق صاحب المحل بسبب التقشف لكنه اقسم اشد الايمان بأنه منذ سنة لم يبع اي متر من الكاشي بسبب التقشف ” . كنت احاول ان اجاذبهُ اطراف الحديث لكنه لم يترك لي اي مجال حيث اردف قائلا : ” صار الحساب 250 الف لكني قلتُ له بأني لا املك الا 200 الف فاضطر ان يوافق وكل ذلك بسبب التقشف لأنه يخشى ان اعدل عن الشراء ، واتفقت مع سائق سيارة حمل على نقل الكاشي وقد طلب مني 50 الف لكنني رفضت الا ان اعطيه نصف ما طلب فوافق بسبب التقشف . 
في منتصف الطريق نزل راكب وصعد رجل عجوز فقال له : عمي وين رايح الوحدك ؟. فاجابه : ” والله رايح للدكتور” . فالتفت الي وقال : ” انظر كل شيء بسبب التقشف فلو كان الوضع المالي جيد لما عانى الرجل من المرض واذا تمرض فيمكنه ان يتصل بالطبيب ليأتيه الى البيت لكن بسبب التقشف اضطر هذا الرجل الكبير ان يركب هذه السيارة الكوستر وهو بهذا العمر . وفي هذه الاثناء صعد رجل سمين جدا فقلت له : ” ها حجي هذا الرجال ما مبين عليه التقشف !” فقال لي مازحا : ” لا عمي هذا لوما التقشف كان صار بعد اسمن واسمن ولن يتمكن ان يدخل من باب الكوستر لكن الحمد لله على نعمة التقشف الذي اوقف نمو كرش الرجل ” . 
وفي تقاطع الكراج صاح الرجل الاربعيني : ” نازل نازل ” وقبل ان ينزل همس باذني : اقول لك سر لا تخبر احدا به ، اني غلست على ابو الكوستر ولم اعطيه الاجرة بسبب التقشف .